" مقالات هيكل عن يوم الغضب المصرى "
صفحة 1 من اصل 1
" مقالات هيكل عن يوم الغضب المصرى "
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل يكتب عن «أحداث ٢ فبراير»: ميزان المستقبل أصبح فى يد الجيش.. واستمرارية النظام لا تحدث بحرب استنزاف على الشعب
٣/ ٢/ ٢٠١١
هناك الآن على الساحة المصرية حقائق كبرى تستولى على الأفكار والاهتمامات والشواغل، وهذه الحقائق الكبرى هى الآن صانعة الأحداث والأخبار والمشاهد والصور، وفوق ذلك فهى كاتبة التاريخ الحى الذى يجرى أمامنا وأمام الأمة وأمام العالم.
١- أولى الحقائق الكبرى أن الشعب المصرى خلال هذا الأسبوع أكمل عبوره إلى العصر العالمى الجديد للشعوب الحية والحرة والقادرة على الإمساك بمصائرها، لا تتركه للقياصرة أو السلاطين أو الطغاة، وبهذا فإن ثورة الشباب تكون على وشك استكمال مسيرة طويلة للشعب المصرى وتتويجها.
- تكون قد أكملت حركة «عرابى» ١٨٨١، التى كانت أول تمرد وطنى على السيطرة.
- وتكون قد أكملت ثورة ١٩١٩، التى خرج فيها الشعب وتصدرتها طبقة كبار مُلاك الأرض يطلبون جلاء القوات البريطانية بالمفاوضات، ويطالبون بدستور قبلوه حتى منحة من الملك، آملين فى تطويره بالحوار مع القصر والإنجليز.
- وتكون قد أكملت ثورة سنة ١٩٥٢، التى كانت ثورة قامت بها طلائع من الجيش المصرى، أحاطت بها وساندتها جماهير شعبه، وخاضت معها تجربة ضخمة فى مصر، وفى محيطها وفى عالمها، لكنها لم تستطع تحقيق ديمقراطية كل الشعب بصرف النظر عن الأسباب.
- ثم يكون شباب ٢٠١١ أخيراً قد جاؤوا بشحنة تحتوى كل ما سبقها، وتتجاوزه، لأنه لم يعد تمرد ضباط «عرابى»، أو قيادة كبار ملاك يتفاوضون، أو ثورة طلائع من الجيش ساندتها جماهير الشعب، لكن ظروفها عاقتها عند ثلاثة أرباع الطريق.
- فهذه المرة خرج الشعب كله بجمعه، بأجياله، وبطبقاته، وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة، ملايين بعد ملايين، وكذلك فهى لأول مرة فى التاريخ الحديث خروج كامل، وبالثورة الكاملة، وللشعب المصرى بكامله.
وهذه هى القيمة العُظمى لهذه اللحظة
٢- الحقيقة الثانية أن القوات المسلحة المصرية هى موطن القدرة فى فكرة الدولة وأساسها، وليست مجرد أداة تحت سلطة أى نظام يظهر على الساحة، وقد دُفعت القوات المسلحة إلى ميادين الخروج بحقائق الأشياء ذاتها وطبائع الأحوال ذاتها، وهى الآن فى الشارع حكماً فاصلاً بين الشعب أصل الشرعية ومصدرها، وبين سلطة لم تعد تملك إلا ما تقدر عليه من أدوات الإجبار، وليس مقومات الشرعية.
وبذلك فإن القوات المسلحة تجد نفسها فى موقع شديد الحساسية.
من ناحية فهى حامى الشرعية فى البلد.
ومن ناحية أخرى، فإن الشرعية فى هذا المنعطف التاريخى لم تعد فى موقع الحكم، لأن الشعب بملايينه نزع عن الحكم مقومات شرعيته.
والمأزق أن جماهير الملايين التى أمسكت بالشرعية فى يدها، لم تجد حتى هذه اللحظة تعبيراً سياسياً عنها، يستطيع أن يتحدث من موضع ثقة.
وفى المقابل، فإن القوات المسلحة نفسها فى هذه اللحظة تبدو حائرة بين سلطة لم تعد تملك شرعية إصدار أمر إليها على جانب، وعلى جانب آخر، مواقع ومواطن للشرعية ليست لها حتى هذه اللحظة سلطة سياسية تعبر عنها وتستطيع إصدار قرار واضح المعالم، وواجب التنفيذ على القوات المسلحة.
والعقدة أن القوات المسلحة كانت أكثر من اتصل مباشرة بشرعية الملايين، ثم إن القوات المسلحة بظاهر الشكل تتلقى الأمر من الحكم وتلك ليست عقدة سياسة، ولكنها قضية وطن بأسره: ضميره ومصيره!!
٣- والحقيقة الثالثة أن الرئيس «حسنى مبارك» كان فى مقدوره هذه اللحظة - لو تخلى عن العناد - أن يخفف المأزق عن الجميع، لكنه بدلاً من ذلك وضع الجميع، وهو أولهم، فى مأزق أشد استحكاماً وأكثر خطورة.
فقد أعلن إصراره على البقاء على نهاية ما يسميه ولايته (وكنت أفضل أن يستعمل كلمة رئاسته، لأن الولاية معنى مستعار من أزمنة انتهت من قرون)، قال بذلك فى نفس اللحظة التى كانت جماهير الملايين قد أطاحت بشرعية هذه الولاية كما وصفها، فذلك الرفض القاطع الجامع من الناس أصاب الولاية قبل أن يصيب الرئاسة!!
ولو أن الرئيس مضى إلى أبعد ولم يتأخر كثيراً كالعادة، وأعلن حل برلمان يعرف قبل غيره أنه لا يمثل أحداً حتى بنسبة حضور من شاركوا فى انتخابه، ثم إنه يعرف أكثر من غيره من انتقى الأعضاء هنا وهناك، ومن قام بتعليبهم فى الصناديق، ومن أعلن النتائج، ومن احتفى بها - لكانت هناك بارقة أمل.
لكنه ترك مثل هذا المجلس وصلة ما بين رئيس أعلن أنه لن يرشح نفسه، ورئيس جديد أعلن أنه سوف ينقل إليه السلطة سلمياً - وبذلك فقد مد جسراً فى الانتقال لا يمكن أن تمشى عليه حركة سليمة أو مأمونة أو نافعة!!
وأكثر من ذلك فإن الرئيس الذى اعترف بأن مجلس الشعب الذى صنعه وزير الداخلية السابق، والأمين العام للحزب الوطنى السابق، والمطعون فى صحة نسبة للشعب فى السابق واللاحق - ترك هذا المجلس حكماً على تعديل الدستور - على حد ما وصف - وحكماً على المرحلة الباقية من ولايته «كما حددها»، وحكماً على خلفه فى الرئاسة الذى تعهد بأن يسلمه السلطة سلمياً «كما قال» - ثم تحفظ بأن أوصى بالنظر جدياً فى الطعون أمام القضاء ببطلان من تصح فى شأنهم الطعون «وهم كل المجلس تقريباً، لأن ما جرى كان عملية تزوير لا تصح معها حصانة أو بقاء أو مشروعية من أى درجة».
فضلاً عن ذلك فإن قمة السلطة نفسها لم تعد لها - فضلاً عن الشرعية - مهابة قول، أو حرمة قرار، أو نفاذ أمر، ولم يبق لها بعد الآن غير عنف تحاول به إخلاء الأرض أمامها وغسلها ولو بحمام دم لا تدفع هى تكاليفه، معتمدة على احتكار السلاح.
٤- والحقيقة الرابعة أن الموقف كان يحتاج إلى قوى سياسية ناضجة تستطيع أن تمد جسراً يملأ الفراغ بين الشرعية والسلطة، لكن الأحزاب المعترف بها ونحن المعترف بها لا تبدو قادرة، ولعله كان من المبالغة انتظار دور فاعل منها، فالأحزاب السياسية فى مصر ذبلت من زمان بعيد، ولو كانت هذه الأحزاب قادرة، لما كانت هناك حاجة إلى ثورة ٢٣ يوليو أساساً، فقد عجزت هذه الأحزاب لأسباب يطول شرحها عن إزاحة الاحتلال البريطانى، كما عجزت عن وقف الفساد الملكى، والحقيقة أن أكبر هذه الأحزاب وأجدرها بأن يسمى حزباً أضاع قوته فى معاهدة سنة ١٩٣٦، وأضاع شرعيته يوم ٤ فبراير، وفيما بعد ذلك فإن الأحزاب السياسية لم تواتها الفرصة أو لم تواتها الشجاعة لإثبات وجودها وفاعليتها، وظلت على حافة بقايا نظام ٢٣ يوليو، وعلى هامشه، وحين عادت إلى تواجدها، فإنها جاءت بقرار من الرئيس «السادات»، ووفق حدود لم تستطع تجاوزها.
ومع سيطرة قوى النظام - أو ما بقى منه بعد احتقان سنة ١٩٨١ واغتيال رأس السلطة - فإن الأمن فرض مطالبه، ومحصلتها أن الحياة السياسية راحت تجف يوماً بعد يوم، وفى فراغ السياسة ظهرت عوالق وطحالب لا تشير إلى خصوبة، بقدر ما تشير إلى ركود وعفن، فالسياسة فى معناها الحقيقى حوار أفكار ومبادئ وبرامج وتيارات موصولة بجماهيرها وأمتها وعالمها.
٥- والحقيقة الخامسة أن العالم كله القريب فيه والبعيد، والصديق فيه والغريب، أصبح طرفاً موجوداً فى الأزمة، مطلاً عليها ومؤثراً فيها.
وضمن المأزق أنه لم يعد فى مقدور أحد هنا أن يواجه هذا العالم أو يخاطبه من موقع شرعية تترتب عليها أحقية.
فهذا العالم يرى أمامه سلطة لم تعد تملك أهلية تمثيل الوطن، كما أن هذا العالم يرى شرعية جديدة فى مصر، ويتابع مبهوراً حركة شباب هذا الوطن، لكنه لا يعرف شيئاً عن هذا الشباب، فهذا الشباب مشغول بما هو فيه، ومستغرق فى عملية استكمال مهمته التى أخذها على عاتقه، وقد ناداه إليها قلق على أحوال وطن، دعا شبابه لنصرته فى وقت تراجع أخاف كل القوى الوطنية المصرية وعوقها حتى حدث ما حدث، وقد راحت كلها تهرول وراء الشباب تؤيده وتناصره.
لكن المشكلة أن العالم يريد أن يسمع صوت الحقيقة من مصر، فهو يرى حركتها، ويسمع صوتها، لكنه حتى هذه اللحظة لم يستطع أن يترجم ما تقوله، وهو مع الحقيقة فى شرعية ما تمثله، ومشروعية ما تطالب به، لكنه يريد أن يفهم أكثر لكى يعرف على الأقل كيف يتعامل معها.
٦ - والحقيقة السادسة أن هناك بوادر انقضاض على الحق البازغ فى مصر، فهناك - ومن الطبيعى أن يكون هناك هجوم مضاد للثورة - فعلى الأرض وأمام الشباب قوى لها مطالبها، وهناك مصالح لديها ماتريده، وهناك خطايا لا يصح أن تنكشف، وتلك كلها دواع تشد كثيرين إلى حلف غير مقدس، يريد أن يقمع حلما مقدسا تتبدى ملامحه.
إن عناصر من الحزب الوطنى قامت منذ عدة سنوات بدراسة للمهارات التى اكتسبتها بعض الأحزاب فى العالم، وقامت عناصر منها بالتحديد بزيارات ممتدة، وكثيرا ما سمعت ولم أصدق أن اهتمام رُسُل الحزب الوطنى ومبعوثيه كان بالخطط السرية للأحزب التى زاروها وبتحضيراتها لمواجهة الخصوم، سواء كانت هذه الأحزاب فى السلطة أو فى المعارضة، أى أن اهتمامهم كان أكثر بأساليب الفعل المضاد، أكثر من اهتمامهم بأساليب الفعل.
وبعض ما يجرى الآن يشير إلى أن ماتعلموه هناك هو الآن موضوع ممارسة تزيد عليها جهالات الادعاء (بما فيها استخدام الأحصنة والجمال)!!
لكن المعضلة أن ذلك كله لن يجدى، وحتى إذا نجحت مخططات هذا الحلف غير المقدس، فسوف ينشأ فى مصر وضع غير مقنع لأحد: لا فى الداخل ولا فى الخارج، لأنه ببساطة لا يملك شرعية البقاء أو الاستمرار، أو حتى كفاءة الإدارة لإنجاز كل هذه المطالب- من البقاء، إلى الاستمرار، إلى الكفاءة - لأن هذه كلها لا تحدث بحرب استنزاف على شعب، تمارس بالقمع والكبت، وبالتمويه والخداع.
وحتى إذا نجح الانقضاض هنا، فإنه لن ينجح أو على الأقل لن يقنع هناك، وهذا وضع لا يستطيع أن يتحمله بلد فى هذه اللحظة من تطوره، ولا حتى من أمنه القومى بالمعنى الحقيقى للأمن القومى، وهو قوة وقدرة وعصرية شعب له دولة، ومن حوله أمة، وهو فى وسط عالم زاخر يموج بتدافع قوى الحرية والعدل والتقدم.
٧ - والحقيقة السابعة وهى تبدو أمامى - على الأقل - واضحة وجلية- أن ميزان المستقبل أصبح فى يد القوات المسلحة، فهذه القوات- وهى رمز السيادة وأداتها - أمامها الآن مسؤوليات عظمى ليس هناك غيرها من يقوم بها، وأستطيع تصورها خطوة بعد خطوة:
- الخطوة الأولى: تأكيد ماأعلنته من اللحظة الأولى من أنها تتفهم مشروعية مطالب القوى الوطنية والشباب طليعتها.
- والخطوة الثانية: ضمان فترة انتقال تفتح الطريق لوضع جديد يحكمه عقد اجتماعى متحضر يمهد لدستور، لا يكتبه محترف التلفيق والتزوير ولكن قانون، تصدره إرادة شعب حر، وبعدها يجىء دور الصياغة، مع خبراء التشريع والقانون.
- ومع ضمان القوات المسلحة فإنه من الضرورى أن يكون هناك محفل وطنى جامع من عقلاء الأمة، يحملون أمانة مشروعها، بحيث يعكس هذا المحفل- ليس فقط روح شباب ٢٠١١- لكن وجوده المباشر أيضا، وربما كان التأمين الأكبر للمحفل الوطنى الجامع لأمناء الوطن هو أن يتكون من عناصر كلها تحت سن معين - خالص من «كراكيب» الماضى (وأعتبر نفسى بينهم)- حتى يتخفف المستقبل من حمولاتها وأثقالها، وحتى يكون هؤلاء الأمناء على الوطن أقدر على فهم زمان عالمى جديد، عليه أن يتفاهم معه ويتعامل مع قواه، مبرأ من عقد وتعقيدات ترسبت من مراحل انتهى وقتها الأصلى، وانتهى وقتها الإضافى، وانتهى وقتها الضائع!!
■ ■ ■
أردت أن أقول كلمات سريعة فى موقف لا يتحمل التلكؤ والتربص، ولا الميوعة والغموض، فى انتظار الثغرات والشقوق، تلاعبا بالمقادير وعدواناً على المصائر!!
وإذا كان فى مقدور ماتبقى من النظام أن يستدعى فلوله فإن من حق الشعب أن ينادى جيشه، حفاظا على شرعية الملايين من البشر وليس جموع الأحصنة والجمال!.
٣/ ٢/ ٢٠١١
هناك الآن على الساحة المصرية حقائق كبرى تستولى على الأفكار والاهتمامات والشواغل، وهذه الحقائق الكبرى هى الآن صانعة الأحداث والأخبار والمشاهد والصور، وفوق ذلك فهى كاتبة التاريخ الحى الذى يجرى أمامنا وأمام الأمة وأمام العالم.
١- أولى الحقائق الكبرى أن الشعب المصرى خلال هذا الأسبوع أكمل عبوره إلى العصر العالمى الجديد للشعوب الحية والحرة والقادرة على الإمساك بمصائرها، لا تتركه للقياصرة أو السلاطين أو الطغاة، وبهذا فإن ثورة الشباب تكون على وشك استكمال مسيرة طويلة للشعب المصرى وتتويجها.
- تكون قد أكملت حركة «عرابى» ١٨٨١، التى كانت أول تمرد وطنى على السيطرة.
- وتكون قد أكملت ثورة ١٩١٩، التى خرج فيها الشعب وتصدرتها طبقة كبار مُلاك الأرض يطلبون جلاء القوات البريطانية بالمفاوضات، ويطالبون بدستور قبلوه حتى منحة من الملك، آملين فى تطويره بالحوار مع القصر والإنجليز.
- وتكون قد أكملت ثورة سنة ١٩٥٢، التى كانت ثورة قامت بها طلائع من الجيش المصرى، أحاطت بها وساندتها جماهير شعبه، وخاضت معها تجربة ضخمة فى مصر، وفى محيطها وفى عالمها، لكنها لم تستطع تحقيق ديمقراطية كل الشعب بصرف النظر عن الأسباب.
- ثم يكون شباب ٢٠١١ أخيراً قد جاؤوا بشحنة تحتوى كل ما سبقها، وتتجاوزه، لأنه لم يعد تمرد ضباط «عرابى»، أو قيادة كبار ملاك يتفاوضون، أو ثورة طلائع من الجيش ساندتها جماهير الشعب، لكن ظروفها عاقتها عند ثلاثة أرباع الطريق.
- فهذه المرة خرج الشعب كله بجمعه، بأجياله، وبطبقاته، وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة، ملايين بعد ملايين، وكذلك فهى لأول مرة فى التاريخ الحديث خروج كامل، وبالثورة الكاملة، وللشعب المصرى بكامله.
وهذه هى القيمة العُظمى لهذه اللحظة
٢- الحقيقة الثانية أن القوات المسلحة المصرية هى موطن القدرة فى فكرة الدولة وأساسها، وليست مجرد أداة تحت سلطة أى نظام يظهر على الساحة، وقد دُفعت القوات المسلحة إلى ميادين الخروج بحقائق الأشياء ذاتها وطبائع الأحوال ذاتها، وهى الآن فى الشارع حكماً فاصلاً بين الشعب أصل الشرعية ومصدرها، وبين سلطة لم تعد تملك إلا ما تقدر عليه من أدوات الإجبار، وليس مقومات الشرعية.
وبذلك فإن القوات المسلحة تجد نفسها فى موقع شديد الحساسية.
من ناحية فهى حامى الشرعية فى البلد.
ومن ناحية أخرى، فإن الشرعية فى هذا المنعطف التاريخى لم تعد فى موقع الحكم، لأن الشعب بملايينه نزع عن الحكم مقومات شرعيته.
والمأزق أن جماهير الملايين التى أمسكت بالشرعية فى يدها، لم تجد حتى هذه اللحظة تعبيراً سياسياً عنها، يستطيع أن يتحدث من موضع ثقة.
وفى المقابل، فإن القوات المسلحة نفسها فى هذه اللحظة تبدو حائرة بين سلطة لم تعد تملك شرعية إصدار أمر إليها على جانب، وعلى جانب آخر، مواقع ومواطن للشرعية ليست لها حتى هذه اللحظة سلطة سياسية تعبر عنها وتستطيع إصدار قرار واضح المعالم، وواجب التنفيذ على القوات المسلحة.
والعقدة أن القوات المسلحة كانت أكثر من اتصل مباشرة بشرعية الملايين، ثم إن القوات المسلحة بظاهر الشكل تتلقى الأمر من الحكم وتلك ليست عقدة سياسة، ولكنها قضية وطن بأسره: ضميره ومصيره!!
٣- والحقيقة الثالثة أن الرئيس «حسنى مبارك» كان فى مقدوره هذه اللحظة - لو تخلى عن العناد - أن يخفف المأزق عن الجميع، لكنه بدلاً من ذلك وضع الجميع، وهو أولهم، فى مأزق أشد استحكاماً وأكثر خطورة.
فقد أعلن إصراره على البقاء على نهاية ما يسميه ولايته (وكنت أفضل أن يستعمل كلمة رئاسته، لأن الولاية معنى مستعار من أزمنة انتهت من قرون)، قال بذلك فى نفس اللحظة التى كانت جماهير الملايين قد أطاحت بشرعية هذه الولاية كما وصفها، فذلك الرفض القاطع الجامع من الناس أصاب الولاية قبل أن يصيب الرئاسة!!
ولو أن الرئيس مضى إلى أبعد ولم يتأخر كثيراً كالعادة، وأعلن حل برلمان يعرف قبل غيره أنه لا يمثل أحداً حتى بنسبة حضور من شاركوا فى انتخابه، ثم إنه يعرف أكثر من غيره من انتقى الأعضاء هنا وهناك، ومن قام بتعليبهم فى الصناديق، ومن أعلن النتائج، ومن احتفى بها - لكانت هناك بارقة أمل.
لكنه ترك مثل هذا المجلس وصلة ما بين رئيس أعلن أنه لن يرشح نفسه، ورئيس جديد أعلن أنه سوف ينقل إليه السلطة سلمياً - وبذلك فقد مد جسراً فى الانتقال لا يمكن أن تمشى عليه حركة سليمة أو مأمونة أو نافعة!!
وأكثر من ذلك فإن الرئيس الذى اعترف بأن مجلس الشعب الذى صنعه وزير الداخلية السابق، والأمين العام للحزب الوطنى السابق، والمطعون فى صحة نسبة للشعب فى السابق واللاحق - ترك هذا المجلس حكماً على تعديل الدستور - على حد ما وصف - وحكماً على المرحلة الباقية من ولايته «كما حددها»، وحكماً على خلفه فى الرئاسة الذى تعهد بأن يسلمه السلطة سلمياً «كما قال» - ثم تحفظ بأن أوصى بالنظر جدياً فى الطعون أمام القضاء ببطلان من تصح فى شأنهم الطعون «وهم كل المجلس تقريباً، لأن ما جرى كان عملية تزوير لا تصح معها حصانة أو بقاء أو مشروعية من أى درجة».
فضلاً عن ذلك فإن قمة السلطة نفسها لم تعد لها - فضلاً عن الشرعية - مهابة قول، أو حرمة قرار، أو نفاذ أمر، ولم يبق لها بعد الآن غير عنف تحاول به إخلاء الأرض أمامها وغسلها ولو بحمام دم لا تدفع هى تكاليفه، معتمدة على احتكار السلاح.
٤- والحقيقة الرابعة أن الموقف كان يحتاج إلى قوى سياسية ناضجة تستطيع أن تمد جسراً يملأ الفراغ بين الشرعية والسلطة، لكن الأحزاب المعترف بها ونحن المعترف بها لا تبدو قادرة، ولعله كان من المبالغة انتظار دور فاعل منها، فالأحزاب السياسية فى مصر ذبلت من زمان بعيد، ولو كانت هذه الأحزاب قادرة، لما كانت هناك حاجة إلى ثورة ٢٣ يوليو أساساً، فقد عجزت هذه الأحزاب لأسباب يطول شرحها عن إزاحة الاحتلال البريطانى، كما عجزت عن وقف الفساد الملكى، والحقيقة أن أكبر هذه الأحزاب وأجدرها بأن يسمى حزباً أضاع قوته فى معاهدة سنة ١٩٣٦، وأضاع شرعيته يوم ٤ فبراير، وفيما بعد ذلك فإن الأحزاب السياسية لم تواتها الفرصة أو لم تواتها الشجاعة لإثبات وجودها وفاعليتها، وظلت على حافة بقايا نظام ٢٣ يوليو، وعلى هامشه، وحين عادت إلى تواجدها، فإنها جاءت بقرار من الرئيس «السادات»، ووفق حدود لم تستطع تجاوزها.
ومع سيطرة قوى النظام - أو ما بقى منه بعد احتقان سنة ١٩٨١ واغتيال رأس السلطة - فإن الأمن فرض مطالبه، ومحصلتها أن الحياة السياسية راحت تجف يوماً بعد يوم، وفى فراغ السياسة ظهرت عوالق وطحالب لا تشير إلى خصوبة، بقدر ما تشير إلى ركود وعفن، فالسياسة فى معناها الحقيقى حوار أفكار ومبادئ وبرامج وتيارات موصولة بجماهيرها وأمتها وعالمها.
٥- والحقيقة الخامسة أن العالم كله القريب فيه والبعيد، والصديق فيه والغريب، أصبح طرفاً موجوداً فى الأزمة، مطلاً عليها ومؤثراً فيها.
وضمن المأزق أنه لم يعد فى مقدور أحد هنا أن يواجه هذا العالم أو يخاطبه من موقع شرعية تترتب عليها أحقية.
فهذا العالم يرى أمامه سلطة لم تعد تملك أهلية تمثيل الوطن، كما أن هذا العالم يرى شرعية جديدة فى مصر، ويتابع مبهوراً حركة شباب هذا الوطن، لكنه لا يعرف شيئاً عن هذا الشباب، فهذا الشباب مشغول بما هو فيه، ومستغرق فى عملية استكمال مهمته التى أخذها على عاتقه، وقد ناداه إليها قلق على أحوال وطن، دعا شبابه لنصرته فى وقت تراجع أخاف كل القوى الوطنية المصرية وعوقها حتى حدث ما حدث، وقد راحت كلها تهرول وراء الشباب تؤيده وتناصره.
لكن المشكلة أن العالم يريد أن يسمع صوت الحقيقة من مصر، فهو يرى حركتها، ويسمع صوتها، لكنه حتى هذه اللحظة لم يستطع أن يترجم ما تقوله، وهو مع الحقيقة فى شرعية ما تمثله، ومشروعية ما تطالب به، لكنه يريد أن يفهم أكثر لكى يعرف على الأقل كيف يتعامل معها.
٦ - والحقيقة السادسة أن هناك بوادر انقضاض على الحق البازغ فى مصر، فهناك - ومن الطبيعى أن يكون هناك هجوم مضاد للثورة - فعلى الأرض وأمام الشباب قوى لها مطالبها، وهناك مصالح لديها ماتريده، وهناك خطايا لا يصح أن تنكشف، وتلك كلها دواع تشد كثيرين إلى حلف غير مقدس، يريد أن يقمع حلما مقدسا تتبدى ملامحه.
إن عناصر من الحزب الوطنى قامت منذ عدة سنوات بدراسة للمهارات التى اكتسبتها بعض الأحزاب فى العالم، وقامت عناصر منها بالتحديد بزيارات ممتدة، وكثيرا ما سمعت ولم أصدق أن اهتمام رُسُل الحزب الوطنى ومبعوثيه كان بالخطط السرية للأحزب التى زاروها وبتحضيراتها لمواجهة الخصوم، سواء كانت هذه الأحزاب فى السلطة أو فى المعارضة، أى أن اهتمامهم كان أكثر بأساليب الفعل المضاد، أكثر من اهتمامهم بأساليب الفعل.
وبعض ما يجرى الآن يشير إلى أن ماتعلموه هناك هو الآن موضوع ممارسة تزيد عليها جهالات الادعاء (بما فيها استخدام الأحصنة والجمال)!!
لكن المعضلة أن ذلك كله لن يجدى، وحتى إذا نجحت مخططات هذا الحلف غير المقدس، فسوف ينشأ فى مصر وضع غير مقنع لأحد: لا فى الداخل ولا فى الخارج، لأنه ببساطة لا يملك شرعية البقاء أو الاستمرار، أو حتى كفاءة الإدارة لإنجاز كل هذه المطالب- من البقاء، إلى الاستمرار، إلى الكفاءة - لأن هذه كلها لا تحدث بحرب استنزاف على شعب، تمارس بالقمع والكبت، وبالتمويه والخداع.
وحتى إذا نجح الانقضاض هنا، فإنه لن ينجح أو على الأقل لن يقنع هناك، وهذا وضع لا يستطيع أن يتحمله بلد فى هذه اللحظة من تطوره، ولا حتى من أمنه القومى بالمعنى الحقيقى للأمن القومى، وهو قوة وقدرة وعصرية شعب له دولة، ومن حوله أمة، وهو فى وسط عالم زاخر يموج بتدافع قوى الحرية والعدل والتقدم.
٧ - والحقيقة السابعة وهى تبدو أمامى - على الأقل - واضحة وجلية- أن ميزان المستقبل أصبح فى يد القوات المسلحة، فهذه القوات- وهى رمز السيادة وأداتها - أمامها الآن مسؤوليات عظمى ليس هناك غيرها من يقوم بها، وأستطيع تصورها خطوة بعد خطوة:
- الخطوة الأولى: تأكيد ماأعلنته من اللحظة الأولى من أنها تتفهم مشروعية مطالب القوى الوطنية والشباب طليعتها.
- والخطوة الثانية: ضمان فترة انتقال تفتح الطريق لوضع جديد يحكمه عقد اجتماعى متحضر يمهد لدستور، لا يكتبه محترف التلفيق والتزوير ولكن قانون، تصدره إرادة شعب حر، وبعدها يجىء دور الصياغة، مع خبراء التشريع والقانون.
- ومع ضمان القوات المسلحة فإنه من الضرورى أن يكون هناك محفل وطنى جامع من عقلاء الأمة، يحملون أمانة مشروعها، بحيث يعكس هذا المحفل- ليس فقط روح شباب ٢٠١١- لكن وجوده المباشر أيضا، وربما كان التأمين الأكبر للمحفل الوطنى الجامع لأمناء الوطن هو أن يتكون من عناصر كلها تحت سن معين - خالص من «كراكيب» الماضى (وأعتبر نفسى بينهم)- حتى يتخفف المستقبل من حمولاتها وأثقالها، وحتى يكون هؤلاء الأمناء على الوطن أقدر على فهم زمان عالمى جديد، عليه أن يتفاهم معه ويتعامل مع قواه، مبرأ من عقد وتعقيدات ترسبت من مراحل انتهى وقتها الأصلى، وانتهى وقتها الإضافى، وانتهى وقتها الضائع!!
■ ■ ■
أردت أن أقول كلمات سريعة فى موقف لا يتحمل التلكؤ والتربص، ولا الميوعة والغموض، فى انتظار الثغرات والشقوق، تلاعبا بالمقادير وعدواناً على المصائر!!
وإذا كان فى مقدور ماتبقى من النظام أن يستدعى فلوله فإن من حق الشعب أن ينادى جيشه، حفاظا على شرعية الملايين من البشر وليس جموع الأحصنة والجمال!.
مواضيع مماثلة
» مقالات هيكل فى المصرى اليوم عن الثورة المصرية " مبارك يعاند التاريخ "
» يوم الغضب المصرى
» يوم الغضب المصرى " مظاهرات حاشدة "
» استمرار الغضب المصرى وانتشار للجيش فى أنحاء القاهرة
» كتاب هيكل الممنوع " كلام في السياسة "
» يوم الغضب المصرى
» يوم الغضب المصرى " مظاهرات حاشدة "
» استمرار الغضب المصرى وانتشار للجيش فى أنحاء القاهرة
» كتاب هيكل الممنوع " كلام في السياسة "
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى